السيجارة الأولى هي الأخيرة
نفث نفثة من دخان سيجارته وراح يراقبها وهي تعلو إلى السماء وتذكر أيام الثانوية عندما بدأ نفثاته الأولى من سيجارته الأولى أعطاه اياها أحد رفاق الشلة لم يكن يستطيع الرفض فالرفض معناه أنه ليس رجلاً بمعنى الكلمة فالسيجارة رمز للرجولة وهكذا أخذها ودخنها كما يفعل رفاق الشلة فانتابته موجة من السعال لم تتوقف ذلك النهار إلا بصعوبة ولا زال حتى الآن وقد بلغ الخمسين ونيف يدخن .
دخلت الممرضة على عجل لتقيس ضغطه وتعدل كيس السيروم فوجدته يدخن فانفجرت صارخة
- كيف تدخن أنت في غرفة عناية مشددة وقد مر يوم واحد على نجاتك باعجوبة من ذبحة صدرية وتدخن من أحضر لك هذه السيجارة هيا أجب ؟؟!!!!! إن هذه السيجارة ستوصلك إلى نهايتك
ونزعت الممرضة السيجارة من يده وأخذتها بعيداً فأحس بالأسى كأنه يودع حبيباً دون أمل في اللقاء .
لم يبدو عليه كثير تأثر فلطالما تعرض للتقريع بسبب تدخينه منذ أيام مدير الثانوية الذي عثر عليه في حمامات الطلاب يدخن متخفياً فكان نصيبه علقة ساخنة وفصل من المدرسة لثلاثة أيام مع احضار ولي أمره يومها جاء أبوه الذي يعمل في المنطقة الصناعية كميكانيكي ديزل وهو رجل ضخم بشاربين مفتولين والسيجارة لاتكاد تفارق شفتيه وعندما علم سبب فصل ابنه استغرق في الضحك :
- هذا الملعون لقد كبر وأصبح يدخن ؟
وذهبت سدى كل محاولات مدير المدرسة لاقناع والده أن التدخين أكبر الشرور التي قد تحيط بابنه وانتهى الأمر بمغادرته الثانوية ليعمل مع والده في المحل بمهنة ميكانيك ديزل ،في البداية لم يكن والده يحب رؤيته والسيجارة في يده فكان يدخن متخفياً وبعد عدة أشهر اعتاد والده على الأمر ورآه يحمل علبة سجائر فلم يعلق واكتفى بابتسامة ذات مغزى وهكذا ففي سن أقل من عشرين عاماً كان يحمل علبة سجائر ويدخن علبة كاملة كل يوم مالبث هذا الرقم أن أرتفع ليصل قبل اصابته بالذبحة الصدرية إلى ثلاث علب وكأن في السيجارة حل لكل متاعبه فهو عندما ينفث دخانها ينفث ما في صدره وما يثقل كاهله من هموم ويشعر بعد الفراغ من تدخينها براحة كبيرة وهدوء وبعد هنيهة يشعر بالحاجة مرة أخرى إليها فيحرق واحدة أخرى وهكذا
ومع أن زوجته لا تدخن وطلبت منه مراراً التوقف عن التدخين لكنه لم يلق لها بالاً ويعود كل يوم من عمله مساءاً كعادته فتضع له زوجته الطعام ساخناً ويبدأ بتناول طعامه وحده فمن يعملون في المنطقة الصناعية لا يعودون إلى منازلهم إلا بعد غروب الشمس وهكذا فوجبته تشكل غداء وعشاء في نفس الوقت ولا أحد يشاركه اياها فزوجته والأولاد قد تناولوا طعامهم قبله بساعات وموعد عشائهم لم يحل بعد وهكذا تراه في منتهى الجوع بعد يوم عمل شاق وطويل فيحاول بمنتهى السرعة حشو بطنه التي كبرت كثيراً في السنوات العشرين الماضية وقد فقد منذ زمن بعيد شكله الرياضي الجميل عندما كان شاباً وما ان يضع آخر لقمة في فمه ويشرب رشفة من كأس الشاي الأسود حتى يشعل سيجارته الأثيرة ويشرع في تدخينها بشراهة لا تقل عن شراهة أكله .
وعندما تبدأ زوجته بالسعال يغادر الغرفة تحت وابل سعالها إلى المطبخ أو الشرفة ليتابع تدخين سيجارة أو اثنتين مجهزاً على علبة السجائر التي فتحها بعد ظهر ذلك اليوم ولا ينتهي النهار إلا وقد أجهز على ثلاث علب .
وقد تنقل بين أنواع عديدة من السجائر فقد بدأ يدخن السجائر الوطنية الرخيصة عندما كان شاباً حتى وصل إلى تدخين سجائر فاخرة من النوع الأجنبي المستورد الذي يكلف( الكروز ) منه مبلغاً معتبراً فما كان يشتري علب السجائر منفردة بل يمون كمية منها في خزانته للطوارئ كما أن لديه كمية أخرى في خزانته الحديدية في محله ولديه في جيوبه غالباً علبة مفتوحة وأخرى لا زالت مختومة تنتظر الحرق كسابقاتها .
أما زوجته فقد عانت الأمرين من رائحة دخانه التي لاتكاد تفارقه حتى اذا استحم ومن اللون الأصفر الذي يعلو أسنانه الأمامية وجزءاً كبيراً من شاربه ومن موجات سعاله الهائلة كل صباح قبل الذهاب إلى عمله ففي ذلك الوقت من النهار تداهمه دائماً موجات متلاحقة من السعال الصباحي يخرج فيها بعض ما تراكم في رئتيه .
وبعد سنوات شعرت زوجته بضيق شديد في التنفس اضطرها إلى استعمال موسع للقصبات كذلك الذي يستعمله المصابون بالربو وعندما عرضها على الطبيب تبين أنها مصابة فعلاً بأعراض تشبه بداية الربو ومشاكل تنفسية مع انها لا تدخن لكنها كما شرح لهما الطبيب مدخن سلبي لمجاورتها له كل هذه السنوات وهي تستعمل الآن جهاز رذاذ خاص للمصابين بالربو.
مر وقت طويل أشبه بالدهور وهو يراقب جهاز( المونيتور) الذي يظهر ضربات قلبه مطلقاً صفارات متلاحقة مع كل ضربة قلب وقد وصلوه باسلاك كثيرة عدا عن (السيروم ) والأدوية الكثيرة التي اعطوه اياها وغطوه بقميص أخضر فضفاض استعداداً لعملية في القلب سيجروها له صباح اليوم التالي
ولكنه شعر فجأة بألم فظيع في الصدر وبخدر أليم في يده اليسرى وعرق بارد يتصبب على جبينه وكان آخر شيء سمعه صوت صفير متطاول من المونيتور واناس يصرخون وجسده ينتفض بالكامل قبل أن يغرق في العتمة .
- تمت –
منصورمسعود
منصورمسعود